فصل: (فرع: بعد بيع عبد لآخر عرفه معيبًا)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: بعد بيع عبد لآخر عرفه معيبًا]

فإن اشترى عبدًا من رجل، وقبضه، ثم باعه من آخر، ثم علم المشتري الأول به عيبًا كان موجودًا في يد البائع الأول.. قال الشيخ أبو حامد: فعلى قول أبي العباس: للمشتري الأول أن يرجع على البائع الأول بالأرش؛ لأنه غير متمكن من الرد في الحال، فهو كما لو تلف. قال: ولكن نفى ما حكاه أصحابنا عنه.
وقال سائر أصحابنا: ليس له أن يرجع بالأرش. واختلفوا في تعليله:
فذهب أبو إسحاق، وأكثر أصحابنا إلى: أن العلة فيه: أنه استدرك الظلامة وغبن كما غبن.
ومنهم من قال: العلة: أنه لم ييأس من الرد؛ لأنه قد يرجع إليه، فيرده عليه. واختار هذا الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، وابن الصباغ.
فإن ردّه المشتري الثاني على المشتري الأول.. رده الأول على بائعه؛ لأنه لم يستدرك الظلامة، وأمكنه الرد.
وإن حدث عند المشتري الثاني عيبٌ آخر، فرجع على المشتري الأول بأرش العيب.. فهل له أن يرجع على البائع الأول بالأرش؟ فيه وجهان:
أحدهما قال ابن الحدّاد: لا يرجع عليه؛ لأنه قد تبرع بدفع الأرش؛ لأنه قد كان يمكنه أن يطالب برد المبيع عليه، ثم يعرض العبد على البائع الأول، فإن قبله منه.. فلا كلام. وإن لم يقبله منه.. رجع عليه حينئذ بالأرش.
والثاني: قال سائر أصحابنا: له أن يرجع بالأرش؛ لأنه لا يمكنه ذلك إلا بعد أن يسترده من المشتري الثاني، فربما لا يرضى به البائع الأول، فلزمه، فيلحقه بذلك الضرر، ولعل نقصانه كثير، مثل: قطع اليد أو الرجل، والجذام، فلم يبطل حقه بترك القبول لذلك.
وإن تلف العبد في يد الثاني، أو وقفه، أو أعتقه، أو حدث به عيب عند الثاني، وأبرأ المشتري الثاني الأول من الأرش، أو رضي به.. فهل للمشتري الأول أن يطالب البائع الأول بالأرش؟
إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا.
وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد يئس من الرد. وإن رجع إلى المشتري الأول ببيع أو هبة أو إرث، وهو على حاله.. فهل له أن يرده على البائع الأول؟
إن قلنا: إن العلة: أنه استدرك الظلامة.. لم يكن له رده.
وإن قلنا: إن العلة: أنه لم ييأس من الرد.. كان له رده؛ لأنه قد أمكنه الرد.
وإن لم يعلم بالعيب حتى وهبه من غيره، وأقبضه.. نظرت:
فإن كانت هبة تقتضي الثواب.. فهي كالبيع، وقد بيناه.
وإن كانت هبة لا تقتضي الثواب.. فلا يختلف أصحابنا: أنه لا يرجع بالأرش؛ لأنه لم ييأس من الرد.
قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على ضعف قول من قال: العلة: أنه استدرك الظلامة، وأنه غبن كما غبن؛ لأنه هاهنا لم يستدرك الظلامة، ولم يغبن، ومع هذا فلا يرجع بالأرش.
فأما إذا اشترى عبدًا، فقبضه، ثم باع نصفه من آخر، وعلم أن به عيبًا كان موجودًا
في يد البائع.. فهل له أن يرد النصف الذي بقي في يده؟ فيه طريقان، حكاهما أبو علي السنجي:
الأول: أن من أصحابنا من قال: فيه قولان، بناء على القولين في تفريق الصفقة.
والطريق الثاني ـ وهو المشهور ـ: أنه لا يملك رده، قولاً واحدًا؛ لأن الشركة نقص، فلا يجبر البائع عليها.
فإذا قلنا بهذا: فهل يملك المشتري المطالبة بالأرش؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما: له المطالبة بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال.
والثاني ـ وهو المنصوص ـ: (أنه لا مطالبة له بالأرش)؛ لأنه لم ييأس من الرد.
وإن حدث بالعبد عيب آخر عند المشتري الثاني.. فله أن يرجع بالأرش على المشتري الأول، وللأول أن يرجع بالأرش على الذي باعه.
وإن اشترى عبدين، ثم باع أحدهما، ثم علم بأحدهما عيبًا بعد البيع.. نظرت:
فإن كان العيب بالمبيع.. لم يكن له أن يطالب بالأرش، كما لو اشتراه وحده، ثم باعه ثم اطلع على عيب فيه.
وإن باع السليم، وبقي عنده المعيب، فأراد ردّه. ففيه طريقان:
الأول: قال الشيخ أبو حامد: ليس له ردّه؛ لأنه قد يرجو رجوع المبيع، فيرد الجميع.
والثاني: قال القاضي أبو الطيب: فيه قولان، بناءً على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد المبيع المعيب.
وإذا قلنا: لا يجوز التفريق.. لم يرده. وهل له أن يطالب بالأرش على هذا؟ فيه وجهان، حكاهما القاضي أبو الطيب:
أحدهما ـ وهو المنصوص ـ: (ليس له أن يرجع بالأرش)؛ لأنه لم ييأس من رجوع المبيع إليه.
والثاني: يرجع بالأرش؛ لأن الرد قد تعذر في الحال. فإن تلف السليم في يد المشتري الثاني، أو تلف في يد المشتري الأول، أو كان العبدان معيبين، فتلف أحدهما في يده أو وقفه أو أعتقه، ثم علم بالعيب بهما.. فهل له أن يرد الباقي؟ فيه قولان، حكاهما الشيخ أبو حامد، والقاضي أبو الطيب، بناء على القولين في تفريق الصفقة:
فإذا قلنا: يجوز التفريق.. رد الموجود، ورجع بأرش العيب في الميت، أو المعتق، أو الموقوف.
وإن قلنا: لا يجوز التفريق.. رجع بأرش العيب فيهما؛ لأنه أيس من الرد. وكل موضع قلنا: يرد الباقي.. فإن الثمن يقسم على قيمة التالف، وقيمة الباقي، فما قابل قيمة الباقي من الثمن.. رجع به المشتري على البائع، وما قابل قيمة التالف.. لم يرجع به.
فإن اختلفا في قيمة التالف.. فقال البائع: قيمته مائة، وقال المشتري: قيمته خمسون.. ففيه قولان:
أحدهما ـ وهو اختيار الشيخ أبي إسحاق ـ: أن القول قول البائع؛ لأنه ملك جميع الثمن، فلا يزال ملكه، إلا على القدر الذي يقر به، كما إذا اختلف الشفيع والمشتري في ثمن الشقص.. فإن القول قول المشتري.
والثاني: أن القول قول المشتري؛ لأنه يغرم، ويؤخذ منه الثمن.
وهكذا: إذا قلنا: لا تفرق الصفقة.. فإنه يرجع بالأرش. فإذا اختلفا في قيمة التالف لأجل الأرش، أو حدث عيب آخر، وأراد أن يأخذ الأرش، واختلفا في قيمة التالف.. فمن القول قوله؟ فيه قولان.

.[فرع: باع عبدًا ثم اشتراه فوجده معيبًا]

إذا اشترى زيد من عمرٍو عبدًا، فقبضه، ثم اشتراه عمرو من زيد، ثم اطلع على عيب فيه كان في يد عمرو قبل أن يشتريه منه زيد.. نظرت:
فإن كان عمرو عالمًا بالعيب قبل أن يبيعه، أو حين اشتراه.. لم يكن له أن يرده على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولا يجوز لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من رده، فإن حدث بالعبد عيبٌ في يد عمرو.. لم يكن له أيضًا أن يرجع بالأرش على زيد؛ لأنه دخل في الشراء على بصيرة، ولم يكن لزيد أن يطالبه بالأرش؛ لأن قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد.
وإن كان عمروٌ غير عالم بالعيب حين باعه، ولا حين اشتراه من زيد.. نظرت:
فإن كان زيدٌ عالمًا بالعيب قبل أن يشتريه من عمرو، أو علم به بعد أن اشتراه من عمرو، فرضي به، أو ترك ردّه مع الإمكان.. فلعمرٍو أن يرده على زيد.
وإن لم يعلما جميعًا به إلا بعد أن حصل في ملك عمرو.. فهل لعمرو أن يرده على زيد؟ فيه وجهان:
أحدهما: ليس له ذلك؛ لأنه إذا رده على زيد.. رده زيد عليه.
والثاني ـ وهو الصحيح، ولم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ـ: أن لعمرو أن يرده على زيد، ثم لزيد أن يرده على عمرو؛ لأن الثمنين قد يختلفان، فيكون له في ذلك غرض، وليس لزيد أن يطالب عمْرًا بشيء قبل أن يرده عليه؛ لأنه قد استدرك الظلامة، أو لأنه لم ييأس من الرد.
فإن حدث في العبد عيب آخر عند عمرو، فإن رجع عمرو على زيد بالأرش..
فلزيد أن يرجع عليه أيضًا بالأرش، ويرجع كل واحد منهما من الثمن الذي ملك به، وإن أبرأ عمرو زيدًا من الأرش.. فهل لزيد أن يرجع عليه بالأرش؟
قال الشيخ أبو حامد: إن قلنا: العلة في بيعه إلى الأجنبي: أنه لا يرجع عليه بالأرش؛ لأنه قد استدرك الظلامة.. لم يرجع هاهنا. وإن قلنا: العلة هناك: أنه لم ييأس من الرد.. رجع هاهنا؛ لأنه قد أيس من الرد.
فإن اشترى زيد من عمرو عبدًا، ثم باعه زيد من خالد، ثم اشتراه زيد من خالد، ثم اطلع زيد على عيب كان فيه وهو في يد عمرو، فإن قلنا بالأولى: لا يرده عمرو على زيد.. فإن زيدًا هاهنا يرده على عمرو. وإن قلنا بالصحيح في الأولى، وأنه يرده عليه.. فعلى من يرده زيد هاهنا؟ فيه وجهان:
أحدهما: يرده على خالد؛ لأنه منه ملكه.
والثاني: يرده على عمرو؛ لأن حدوث العيب كان بيده.

.[فرع: اشترى عبدًا ثم طالب البائع إقالته]

قال القاضي أبو الطيب: إذا اشترى رجل من رجل عبدًا، ثم استقاله، فأقاله، ورجع العبد إلى البائع، فوجد به البائع عيبًا حدث في ملك المشتري.. كان للبائع ردّه على المشتري، ورفع الإقالة؛ لأنه يلحقه ضرر بإمساكه مع العيب؛ لأنه ربما كان الثمن الذي رده خيرًا له من العبد، فكان له إزالة الضرر برده واسترجاع الثمن، كالمشتري إذا وجد بالمبيع عيبًا.. فإن له رده واسترجاع الثمن من البائع.

.[فرع: إسلاف حنطة بعبد ثم ظهر عيبه]

ذكر القاضي أبو الطيب في " شرح المولدات ": إذا أسلم رجل عبدًا في حنطة أو تمر، فقبض المسلم إليه العبد، فأعتقه، ثم وجد بالعبد عيبًا، فإن عفا المسلم إليه عن حقه.. وجب عليه تسليم جميع المسلم فيه، وإن لم يعف.. يرجع بالأرش.
وكيفية ذلك: أن يقوم العبد صحيحًا، ثم يقوم معيبًا، وينظر ما بين القيمتين، فإن نقصه العيب العشر من قيمته.. سقط عن ذمة المسلم إليه عشر المسلم فيه، وكذلك إن نقصه العيب أقل أو أكثر.. سقط عن ذمته مثل تلك النسبة من المسلم فيه؛ لأن المسلم فيه هو ثمن العبد، وهل ينتقض العقد في الباقي من المسلم فيه؟ حكى في ذلك طريقين:
الأول: من أصحابنا من قال: فيه قولان، كما إذا باع ما يملك وما لا يملك.
والثاني: منهم من قال: لا ينتقض، قولاً واحدًا.

.[مسألة: فوات الوصف المرغب]

إذا باع عبدًا بشرط أنه كاتب، أو على أنه يحسن صنعة، فبان أنه ليس بكاتب، أو أنه لا يحسن تلك الصنعة.. ثبت للمشتري الخيار؛ لأنه أنقص مما شرط. وإن اشتراه بشرط أنه خصي، فبان فحلا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أكثر قيمة من الفحل. وإن اشتراه بشرط أنه فحل، فبان خصيًّا.. ثبت له الخيار؛ لأن الخصي أنقص خلقة وأقل بطشًا وقوة. وإن اشتراه بشرط أنه مسلم؛ فبان كافرًا.. ثبت له الخيار؛ لأن المسلم أفضل من الكافر. وإن اشتراه بشرط أنه كافرٌ، فبان مسلمًا.. ثبت له الخيار.
وقال أبو حنيفة، والمزني: (لا خيار له؛ لأن المسلم أفضل من الكافر). وهذا ليس بصحيح؛ لأن المسلم وإن كان أفضل من الكافر في الدين، إلا أن الكافر أكثر ثمنًا؛ لأنه يرغب في شرائه المسلم والكافر، والمسلم لا يرغب في شرائه إلا المسلم.
وإن اشترى جارية على أنها بكر، فبانت ثيِّبًا.. ثبت له الخيار؛ لأن البكر أكثر ثمنًا. وإن اشتراها على أنها ثيب، فبانت بكرًا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يثبت له الخيار؛ لأنه قد تكون الثيب أحب إليه من البكر؛ لأنه قد يكون ضعيفا لا يقدر على وطء البكر.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه لا خيار له، لأن البكر أكثر ثمنًا، ولا اعتبار بما عنده.
وإن قال: بعني هذا العبد، فباعه، فبان أنه جارية، أو قال: بعني هذا الحمار، فباعه، فبان بغلا.. ففيه وجهان:
أحدهما: يصح البيع؛ لأن عقد البيع وقع على عين موجودة، ويثبت للمشتري الخيار؛ لأنه خلاف المشروط.
والثاني: لا يصح البيع، وهو المنصوص؛ لأن العقد وقع على جنس، فلا ينعقد في غيره.

.[فرع: نقص قدر المبيع]

إذا قال: بعتك هذه الصبرة على أنها مائة قفيز، فبان أنها دون المائة.. فالمشتري بالخيار.. بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص من المشروط، وبين أن يأخذ الموجود من الصبرة بحصته من الثمن.
وإن بان أنها أكثر من المائة.. أخذ المشتري المائة بجميع الثمن، وترك الزيادة؛ لأنه يمكن رد الزائد من غير ضرر.
وإن قال: بعتك هذا الثوب، أو هذه الأرض، على أنها عشرة أذرع، فبانت تسعة أذرع.. فالمشتري بالخيار: بين أن يفسخ البيع؛ لأنه أنقص مما شرط، وبين أن يجيز البيع، وبكم يجيز؟ فيه وجهان:
أحدهما ـ حكاه القاضي أبو الطيب في " المجرد " ـ: أنه يمسك التسعة بحصتها من ثمن العشر، كما قلنا في الصبرة من الحنطة.
والثاني ـ وهو الصحيح ـ: أنه يمسكها بجميع الثمن؛ لأن الحنطة تتساوى أجزاؤها، فكان ما فقد مثل ما وجد، وليس كذلك الثوب والأرض، فإن أجزاءهما لا تتساوى، فلم يكن ما فقد مثل ما وجد.
وإن بان الثوب أو الأرض أحد عشر ذراعًا.. فحكى الشيخ أبو حامد: أن فيها قولين، وحكاهما الشيخ أبو إسحاق، وابن الصباغ وجهين:
أحدهما: أن البيع صحيح، ويكون البائع بالخيار: بين أن يسلم جميع الثوب والأرض، ويجبر المشتري على قبوله، وبين أن يفسخ البيع؛ لأن الزيادة فيهما نقصان في حق البائع، فثبت له الخيار، كما أن الثوب إذا وجد دون العشرة.. فإنه نقصان في حق المشتري، ويثبت له الخيار، ولا يمكن أن يجعل ذراعًا منه للبائع، كما قلنا في الصبرة؛ لأن ذلك مختلف، ولأن قطعه يؤدِّي إلى نقصان قيمة الثوب، والشركة نقص عليهما.
والثاني: أن البيع باطل؛ لأنه لا يمكن إجبار البائع على تسليم ما زاد على العشرة، ولا يمكن إجبار المشتري على أخذ العشرة؛ لأنه يقول: اشتريت الثوب كله. والأول أصح.
قال المسعودي [في "الإبانة" ق\224] وإن قال بعني هذا القطيع من الغنم، على أنه ثلاثون، فبان تسعًا وعشرين، أو إحدى وثلاثين.. ففيه قولان:
أحدهما: يصح في الثلاثين إذا كان زائدًا، وفي التسع والعشرين إذا كان ناقصًا، بحصته من الثمن.
والثاني: لا يصح البيع.

.[مسألة: بيع العبد الجاني]

قال الشافعي: (ولو باع عبده، وقد جنى.. ففيه قولان:
أحدهما: أن البيع جائز، كما يكون العتق جائزًا، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته.
والثاني: أن البيع مفسوخ). وهذا كما قال: إذا باع عبده، وقد جنى.. فهل يصح البيع؟ فيه قولان:
أحدهما: يصح البيع، وبه قال أبو حنيفة، وأحمد، واختاره المزني؛ لأن الجناية إن كانت عمدًا.. فهذا عبدٌ يرجى سلامته، ويخاف تلفه، فلم يمنع ذلك من بيعه، كالمريض. وإن كانت خطأً.. فلم يتعلق المال برقبته برضا السيد، فلم يمنع صحة البيع، كما لو باع ما فضل عن قدر الزكاة من ماله.
والقول الثاني: لا يصح البيع، وهو اختيار الشافعي؛ لأنه حق لآدمي تعلق برقبة العبد، فمنع صحة البيع، كالرهن، بل حق الجناية آكد؛ لأنها تقدم على الرهن.
إذا ثبت هذا: فاختلف أصحابنا في موضع القولين على ثلاث طرق:
فـأوَّلهامنهم من قال: القولان في الحالين سواءٌ كانت الجناية عمدًا أو خطأً؛ لأن القصاص حق آدمي، فهو كالمال، ولأنه يسقط إلى المال.
وثانيها منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية عمدًا، فأمَّا إذا كانت خطأً.. فلا يصح البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه تعلق برقبته مال، فهو كالمرهون. وهذا القائل يقول: أصل هذا: ما الموجب بقتل العمد؟ فيه قولان:
أحدهما: القود فقط.
فعلى هذا: يجوز بيعه، كالمرتد.
والثاني: أن موجبه أحد الأمرين: إما القصاص، وإما الدية، فلا يجوز بيعه، كالمرهون.
وثالثها منهم من قال: القولان إذا كانت الجناية خطأً، فأما إذا كانت عمدًا صحَّ البيع، قولاً واحدًا؛ لأنه يخاف هلاكه بالقصاص، فهو كالمرتد والمريض.
قال الشيخ أبو حامد: وهذه الطريقة أصح؛ لأن الشافعي قال: (فيه قولان، أحدهما: البيع جائز، وعلى السيد الأقل من قيمته أو أرش جنايته، وإنما يكون هذا على السيد في جناية خطأً).
فأما في جناية العمد: فإن للمجني عليه القصاص.
إذا ثبت هذا: فإن قلنا: إن البيع باطلٌ.. فإنه يرد العبد ويسترجع الثمن. وإن قلنا: إن البيع صحيحٌ.. نظرت:
فإن كانت الجناية خطأً أو عمدًا، فعفا المجنيُّ عليه على المال.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو ظاهر النص ـ: أن البائع يلزمه الفداء؛ لأن الشافعي قال: (البيع جائزٌ، وعلى السيد الأقل من قيمته، أو أرش جنايته). وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه كان مخيرًا بين أن يفدي، وبين أن لا يفدي، فإذا باع.. فقد زال ملكه عنه، فكان اختيارًا منه للفداء، كما لو أتلفه السيد.
فعلى هذا: لا يلزم السيد إلا أقل الأمرين من قيمة العبد أو أرش الجناية؛ لأنه لا يمكن بيعه. وإن أعسر المولى بالفداء.. فسخ البيع؛ لأن حق المجني عليه سابق لحق المشتري، فإذا تعذر إمضاؤهما قدم السابق.
والوجه الثاني: أنه لا يتعين عليه الفداء، بل هو بالخيار: بين أن يفديه، وبين أن لا يفديه؛ لأن العبد لم يتلف بالبيع.
فعلى هذا: إن فداه.. استقرّ البيع، وإن لم يفده.. فسخ البيع. إذا اختار أن يفديه على هذا.. فبكم يفديه؟ فيه قولان:
أحدهما: بأقل الأمرين من قيمته، أو أرش الجناية.
والثاني: يلزمه أرش الجناية بالغًا ما بلغ؛ لأنه يمكن هاهنا بيعه.
وإن كانت الجناية عمدًا، واختار المجنيّ عليه القصاص.. نظرت:
فإن كانت الجناية قتلا، فقتله وليّ المجني عليه، فإن كان قبل أن يقبضه المشتري.. انفسخ البيع، كما لو مات. وإن قتله بعد أن قبضه المشتري.. نظرت:
فإن لم يعلم المشتري بجنايته حتى قتل في يده.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول أبي العباس ابن سريج، وأبي عليّ بن أبي هريرة ـ: أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة العيب الموجود في يد البائع؛ لأنه لو كان بمنزلة الاستقحاق.. لم يصح بيعه، فإذا كان عيبًا، وتلف في يد المشتري.. رجع على البائع بالأرش، فيقوم وهو جان، ويقوم وهو غير جان، وينظر ما بين القيمتين، ويرجع في مثل تلك النسبة من الثمن.
والوجه الثاني ـ وهو قول أبي إسحاق، وهو المنصوص ـ: (أن تعلق القتل برقبة العبد بمنزلة الاستحقاق). وبه قال أبو حنيفة؛ لأنه تلف بسبب كان في يد البائع، فصار كما لو غصب عبدًا، فباعه.
فعلى هذا: يرجع المشتري بجميع الثمن، ويجب تكفينه ودفنه على البائع، وهذا كما لو غصب عبدًا، فجنى العبد على غيره في يد الغاصب، ثم ردّه الغاصب على المالك، فاقتص من العبد في يد المالك، بالجناية التي جناها في يد الغاصب.. فإنه يجب على الغاصب قيمته.
وأما إذا كان المشتري عالمًا بالجناية حين الشراء، أو علم بها بعد الشراء، فلم يرده حتى قتل في يده، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة في المسألة قبلها.. لم يرجع بشيء، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، فعلم بمرضه، فقبضه، ثم مات في يده. وإن قلنا بقول أبي إسحاق، وبالمنصوص.. ففيه وجهان:
أحدهما ـ وهو قول الشيخين: أبي حامد، وأبي إسحاق ـ: أن المشتري يرجع بجميع الثمن؛ لأنه إذا قتل.. بان أنه تعلق القتل برقبته، كالاستحقاق، ولو اشترى عبدًا مستحقُا.. فإن للمشتري أن يرجع بالثمن، سواءٌ علم بالاستحقاق عند الشراء، أو لم يعلم، فكذلك هاهنا.
والوجه الثاني ـ وهو قول القاضي أبي الطيب، وابن الصباغ ـ: أنه لا يرجع المشتري بشيء؛ لأن الشافعي قال: (لو اشتراه عالمًا به.. صح البيع، ولا خيار له، فصار كالعيب إذا علم به).
وإن اشترى عبدًا مرتدًّا.. صح البيع، قولاً واحدًا؛ لأن الردة لا تزيل ملك مالكه عنه، وإنما يخشى هلاكه بالقتل، ويرجى سلامته بالإسلام، فيصح بيعه، كالمريض، فإن كان المشتري عالمًا بردته.. لم يثبت له الخيار، كما لو اشترى عبدًا مريضًا، وهو عالمٌ بمرضه. فإن لم يعلم بردته، ثم علم قبل أن يقتل.. ثبت له الخيار في فسخ البيع؛ لأنه عيب. فإن قتل في يد المشتري.. نظرت:
فإن لم يعلم بردته حتى قتل.. فعلى منصوص الشافعي، وقول أبي إسحاق: يرجع بجميع الثمن، وبه قال ابن الحداد. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: يرجع بأرش العيب، وبه قال القاضي أبو الطيب.
وإن كان المشتري عالمًا بردته قبل أن يقتل، فإن قلنا بقول أبي العباس، وأبي علي بن أبي هريرة: لم يرجع هاهنا بشيء. وإن قلنا بالمنصوص.. ففيه وجهان:
أحدهما قال الشيخان: أبو حامد، وأبو إسحاق: يرجع بجميع الثمن.
وثانيهما قال القاضي أبو الطيب، وابن الصباغ: لا يرجع بشيء.
وفرع القاضي أبو الطيب على أصله مسائل منها:
إذا اشترى عبدًا سارقًا.. صحّ الشراء، فإن علم بسرقته.. فلا خيار له، وإن قطع في يد المشتري.. لم يرجع بشيء. وإن لم يعلم بسرقته حتى قطع.. فعلى المنصوص، وقول أبي إسحاق، وابن الحداد: يثبت له الخيار: إن شاء.. فسخ البيع ورده مقطوعًا، وإن شاء.. أجازه، ولا شيء له. وعلى قول أبي العباس، وأبي عليّ: ليس له الرد، ولكن يرجع بأرش العيب.
قال: وإن اشترى عينًا بها عيب في يد البائع، ولم يعلم به المشتري، فقبض المشتري المبيع، فزاد العيب في يد المشتري.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: تصير الزيادة كأنها حصلت في يد البائع، فيكون للمشتري الخيار. وإن مات من الزيادة.. انفسخ البيع، ورجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وابن أبي هريرة: لا يفسخ البيع بزيادة العيب، ولكن يرجع بالأرش، وكذلك إن تلف المبيع في يده من الزيادة.. رجع بالأرش.
قال القاضي: وكذلك: إذا اشترى جارية حاملاً لم يعلم بحملها حتى ماتت من الولادة.. فعلى قول أبي إسحاق، وابن الحداد: ينفسخ البيع، ويرجع بالثمن. وعلى قول أبي العباس، وأبي علي: لا ينفسخ البيع، ولكن يرجع بالأرش.
وأما إذا قتل العبد غيره في المحاربة.. نظرت:
فإن تاب قبل القدرة عليه.. فهو بمنزلة القاتل في غير المحاربة، وقد بينّاه.
وإن لم يتب، وقدر عليه.. فهل يصح بيعه؟ فيه طريقان:
الأول: قال الشيخ أبو حامد: لا يصح بيعه، قولاً واحدًا؛ لأنه لا منفعة فيه إذ قتله محتم.
والثاني: قال القاضي أبو الطيب: هو كما لو قتل في غير المحاربة، فيكون في بيعه قولان؛ لأن فيه منفعة، وهو أن يعتقه المشتري:
فإذا قلنا: يجوز بيع العبد الجاني.. جاز عتقه.
وإن قلنا: لا يجوز بيعه.. فهل يجوز عتقه؟ فيه ثلاثة أقوال، كعتق العبد المرهون، ويأتي بيان ذلك في (الرهن) إن شاء الله تعالى.